الجنوب العالمي- عودة مؤجلة ونظام عالمي بديل في حرب غزة؟

المؤلف: هشام جعفر10.24.2025
الجنوب العالمي- عودة مؤجلة ونظام عالمي بديل في حرب غزة؟

جيل الستينيات يتذكر بوضوح حديث دول الجنوب، التي كانت تُعرف آنذاك بالدول النامية، عن "نظام اقتصادي عالمي جديد". في الأول من مايو/أيار عام 1974، نجحت دول العالم الثالث، مدعومة بحلفائها من الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي، والقوة المالية الصاعدة للدول المصدرة للنفط بعد الحظر النفطي عام 1973، في تجاوز معارضة دول العالم الأول الغنية، ووافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على وثيقتين تاريخيتين هما: "الإعلان" و"برنامج العمل بشأن إنشاء نظام اقتصادي دولي جديد".

تقوم هذه المبادرة على فكرة محورية، وهي أن النظام الاقتصادي العالمي القائم ينطوي على قواعد مجحفة، وأن تحقيق التنمية يتطلب تضافر جهود الدول الفقيرة لتغيير هذه القواعد.

يُعلن "الإعلان" أن النظام الاقتصادي الحالي يتسم بـ "الهيمنة الأجنبية والاستعمار، والاحتلال، والتمييز والفصل العنصري، والاستعمار الجديد"، مما يشكل "عقبات كبرى أمام التحرر الكامل والتقدم في البلدان النامية". ولذلك، تتطلب التنمية إرساء نظام جديد يقوم على السيادة والإنصاف والتعاون الدولي. ولتحقيق هذه الغاية، يجب إجراء تعديلات جذرية على قواعد الاقتصاد العالمي، ويشمل ذلك ترسيخ حقوق الدول في السيطرة على مواردها الطبيعية، وإنهاء احتكار الوصول إلى التكنولوجيات الحيوية، وتعزيز تنظيم الشركات متعددة الجنسيات، وضمان سيولة عالمية كافية، والحد من عبء الديون السيادية المتزايد، وإنشاء مؤسسات ديمقراطية تدير النظام المالي العالمي، مثل صندوق النقد الدولي، وتوفير معاملة تفضيلية للدول الفقيرة في مسائل التجارة والتمويل.

عكست هذه التحركات آنذاك طاقة تحررية لدول الجنوب، موروثة من حقبة الاستقلال الوطني. الجدير بالذكر أنه في تلك الفترة، كانت الحكومات والمثقفون العرب في صميم هذه التحركات، على عكس الوضع الراهن. كانت الحكومات العربية تطمح إلى السيادة الكاملة على مواردها الطبيعية، وعلى رأسها النفط، الذي ارتفعت أسعاره بعد الحظر النفطي عام 1973. وساهم المثقفون العرب، جنبًا إلى جنب مع نظرائهم من دول الجنوب، في الكتابة والتأليف حول هذا الموضوع.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي في عامي 1990 و1991، تحولت اللحظة التاريخية إلى هيمنة القطب الواحد، ممثلة في الولايات المتحدة.

شهد الاقتصاد العالمي تحولات عميقة، لكنها لم تتماشَ مع تطلعات الدول النامية. تحررت الأسواق على حساب اقتصادات الدول الطامحة إلى النمو، وتعززت قوة الشركات متعددة الجنسيات. وفي المقابل، أُنشئت اتفاقيات تجارية ومحاكم شركات جديدة لحمايتها، وأصبحت أعباء الديون سمة ملازمة للاقتصاد العالمي، وأداة تستخدمها المنظمات المالية متعددة الأطراف والقوى الغربية المهيمنة لفرض سيطرتها على البلدان المدينة. تم تدوين احتكار التكنولوجيا وحقوق الملكية الفكرية في الاتفاقيات الدولية، وأصبحت النيوليبرالية، أو ما يُعرف ببرامج التكيف الهيكلي التي تقودها المؤسسات المالية الدولية، السياسات الإلزامية. وأضحت المصالح الضيقة للدول الغنية وشركاتها أكثر وضوحًا في قواعد الاقتصاد العالمي من أي وقت مضى.

في هذه الحقبة وما قبلها، استنفدت دول الجنوب طاقتها التحررية الموروثة من مرحلة الاستقلال الوطني. خرجت مصر في عهد السادات مبكرًا من صفوف دول الجنوب، ساعية إلى الدوران في فلك الولايات المتحدة، التي تمتلك حصة الأسد في المنطقة. وتآكل حزب المؤتمر الهندي تدريجيًا، ليخلفه حزب بهاراتيا جاناتا، مما جعل الهند تتأرجح بين القومية الهندوسية المتطرفة وإرث الديمقراطية العلمانية. أما إندونيسيا، فقد شهدت سقوط سوهارتو قبل نهاية القرن الذي شهد إنشاء حركة عدم الانحياز في منتصفه. ولحسن الحظ، أضيف إلى ميراث التحرر جنوب أفريقيا، التي تخلصت من الفصل العنصري بين عامي 1990 و1993.

لا يمكن فهم موقف بعض دول الجنوب من الحرب على الفلسطينيين إلا في سياق أوسع، وهو أن عودة الجنوب العالمي إلى الظهور قد تشكّل في الواقع تهديدًا للنظام الدولي القائم الذي تقوده الولايات المتحدة

ما بعد تفكك الجنوب العالمي

وهكذا، تفكك مفهوم الجنوب العالمي، مما يجعل من الصعب الحديث عن كتلة واحدة متراصة. صحيح أن أنصار وحدة الجنوب أدركوا منذ أمد بعيد أن حركتهم تشتمل على تنوع ثقافي وسياسي واقتصادي كبير، بل وحتى تناقضات، إلا أنه لا تزال هناك نقاط اتفاق واضحة ومجموعة متماسكة من المظالم والمطالب التي غالبًا ما تصطدم بآذان صماء في الغرب.

تتمحور هذه المظالم والمطالب، التي تعبر عنها حكومات الجنوب بتحركات وسياسات وقرارات متباينة، حول أمرين:

  1. وجود مشاكل هيكلية مزمنة في نظامنا الدولي تعوق الفقراء وتعرقل جهودهم لتحقيق التنمية.
  2. بالنسبة للدول الأقل قوة، لم يكن النظام القائم على القواعد الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وقادته الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة أكثر من مجرد نفاق على نطاق عالمي. فالتزام الغرب بقواعده مشروط، فهناك قاعدة للولايات المتحدة وحلفائها، وخاصة إسرائيل، وقاعدة أخرى لبقية العالم.

منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2009 على الأقل، أصبحت القوى الصاعدة في الجنوب العالمي، وهي مجموعة من الدول التي يمكن تعريفها تقريبًا بأنها "تلك الدول التي تعتقد أن النظام العالمي القائم وقواعده ليست إلا هراء"، أكثر صراحة في التعبير عن استيائها من النفاق المتجذر في النظام العالمي. قادت الهند وجنوب أفريقيا مؤخرًا جهودًا رامية إلى تخفيف قيود الملكية الفكرية، وتسهيل الوصول العالمي إلى الأدوية الأساسية مثل لقاح كوفيد-19.

وفي الأمم المتحدة، كانت الدول الأفريقية في طليعة حملة لانتزاع السياسة الضريبية العالمية بعيدًا عن سيطرة الدول الغنية، وإنهاء ممارسات التهرب الضريبي المنهجية التي استنزفت مليارات الدولارات من اقتصاداتها. وفي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تناضل كتل بلدان الجنوب من أجل إلغاء الديون، والتمويل الميسر، وتخفيف شروط الاقتراض. وتواصل حركة عدم الانحياز ومجموعة الـ 77 الاجتماع بانتظام وتجديد التزاماتهما ببناء اقتصاد عالمي أكثر إنصافًا.

حرب غزة وإحياء دور الجنوب العالمي

استنادًا إلى هذا التصور، لا يمكن فهم موقف بعض دول الجنوب من الحرب على الفلسطينيين إلا في سياق أوسع، وهو أن عودة الجنوب العالمي إلى الظهور قد تشكل تهديدًا للنظام الدولي القائم الذي تقوده الولايات المتحدة. يرى بعض المراقبين أن القلة من زعماء أمريكا اللاتينية الذين لم يدينوا بشكل مباشر الهجوم الذي شنته حماس، كانوا زعماء الدول ذات التوجهات الصارمة المناهضة للغرب أو الولايات المتحدة في سياساتها الخارجية.

لكن يجب التأكيد على أن هذا الموقف من دول الجنوب، الذي لم يشهد إجماعًا تجاه الحرب على غزة، لا يعني بالضرورة اصطفافًا مع الصين وروسيا، القوتين المتنافستين مع الغرب. يدرك الجنوب العالمي أن الموقف الروسي والصيني لا يخلو من النفاق أيضًا. لذا، فإن المنطق الذي يحكم علاقته بقوى النظام الدولي يقوم على التحوط، ويستند إلى "البحث عن صفقات جيوسياسية".

كشف استطلاع للرأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مؤخرًا، أن دولًا مثل البرازيل والهند والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا تريد حرية التعامل مع الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا وأي دولة أخرى وفقًا لشروطها الخاصة. إنها تبحث عن صفقات جيوسياسية، لكن الاستطلاع نفسه كشف أن الغرب لديه الكثير ليقدمه. لا تقدم روسيا أكثر من مجرد مرتزقة، ويبدو أن الصين تتبع النموذج التاريخي الغربي المتمثل في الهيمنة الجيوسياسية من خلال الديون.

هناك وجهات نظر ترى أن الموقف الأميركي في تلك الحرب الجارية على الفلسطينيين والسعي لاستعادة الهيمنة يمثل نوعًا من تعطيل الاتجاه العالمي نحو تعددية المراكز الثقافية والقوى الجيوسياسية المنشئة للمعايير التي يجب أن تحكم النظام الدولي. خاصة أن دور القوى المنافسة مثل الصين وروسيا بدا محدودًا نسبيًا في تلك الحرب، ولم تعمل ككابح لها مثلما هو الحال في مناطق أخرى في أفريقيا.

وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار، وهي ضرورة أن نتحرر من فكرة أن وجود أقطاب متعددة في النظام الدولي يخلق ظروفًا أفضل للنضال من أجل الحرية والعدالة. هذه ببساطة فكرة خاطئة. التاريخ لا يدعم ذلك. كانت إحدى اللحظات الأكثر تعددية الأقطاب في التاريخ الأوروبي هي الوفاق الأوروبي في القرن التاسع عشر. كان الأمر يتعلق بتعاون القوى العظمى لحماية الوضع الراهن ضد الثورة الديمقراطية التي كانت فرنسا تمثلها آنذاك.

السؤال الذي أختم به هذا المقال القيّم ويستحق المتابعة: هل مواقف بعض دول الجنوب من الحرب على الفلسطينيين تمهد الطريق للتعبئة في المستقبل حول قضايا الجنوب؟ خاصة وأن ذلك يجري في سياق أوسع من حركات احتجاج نشأت في عدد من دول الشمال المتقدم، وهي حركات في حقيقتها بحث عن معنى إنساني جماعي مشترك، وليس معنى فرديًا لصالح أطراف على حساب أخرى. هذه الحركات، جنبًا إلى جنب مع بعض دول الجنوب، تحاول استعادة المعنى الإنساني المشترك للقواعد التي بُني عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، والذي أهدرته الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة.

إن الاعتراف بشرعية مطالب الجنوب العالمي، والفرص التي توفرها قوته المتنامية، كما يرى أحد المحللين، لا يعني الدعم الأعمى لكل عمل يقوم به كل طرف جنوبي. من المؤكد أن بعض الحكومات في الجنوب العالمي، كما هو الحال في الشمال، تتبع سياسات داخلية وخارجية تتعارض مع التنمية أو السلام أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان، ولكن هذه الأهداف الأساسية من المرجح أن تزدهر في سياق نظام دولي يوفر فرصة حقيقية للتنمية.

بعبارة أخرى، هل الموقف من الإبادة الجماعية الجارية في فلسطين يمكن أن يوفر فرصة لتحقيق الحلم الذي تم تأجيله لنصف قرن من الزمان، وهو بناء نظام اقتصادي دولي جديد وعالم أكثر عدلًا وازدهارًا وسلامًا للجميع؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة